الوفاق الرمضاني 19: الرد على شبهة زعمهم أن هناك تناقضا بين النقل ” القرآن والسنة ” وبين ” العقل”

جريدة الوفاق – السنة الأولى (العدد 236 ) – الجمعة والسبت 21 و22 رمضان 1446 هجري- 21 و22 مارس 2025
ملحق الوفاق الرمضاني 19
الشبهات التي تطعن في الإسلام والردود عليها (19)
مقدمة
يتعرض الإسلام منذ اللحظات الأولى لظهوره – ولا يزال حتى اليوم – للهجوم وإثارة الشبهات حوله والتشكيك في عقائده وتعاليمه، والواقع يبين لنا أن الشبهات التي تثار ضد الإسلام منذ ظهر وحتى اليوم هي شبهات مكررة ولا تختلف مع بعضها إلا في الصياغة أو محاولة إعطائها صبغة علمية. ومواجهة تلك الشبهات تكون ببذل جهود علمية مضاعفة من أجل توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، ونشر ذلك على أوسع نطاق خاصة في عصر ثورة المعلومات والاتصالات والاستخدام المتزايد لشبكة الاتصالات الدولية “الإنترنت “، وقد نهض مفكرو الإسلام – في فترات مختلفة – بالقيام بواجبهم في الرد على هذه الشبهات كل بطريقته الخاصة وبأسلوبه الذي يعتقد أنه السبيل الأقوم للرد.
وتعميما للفائدة، ستواصل صحيفة ” الوفاق” خلال شهر رمضان المبارك، نشر الردود على كل شبهة من هذه الشبهات المثارة، والتي تتردد في عصرنا بشكل أو بآخر، من خلال عرض ما جاء في بعض المراجع منها كتاب ” حقائق إسلامية في مواجهة حملات التشكيك ” للدكتور محمود حمدي زقزوق، وهو من إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف في مصر بتاريخ المحرم ١٤٢٢هـ – أبريل ٢٠٠١م . وكتاب” مختارات من كتاب حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين” – إشراف وتقديم د . محمود حمدي زقزوق – وزارة الأوقاف – القاهرة – بدون تاريخ. وكتاب ” في جولة مع المستشرقين ” – للأستاذ عبد الخالق سيد أبو رابية – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة 1976. ونأمل أن يسهم نشرنا لهذه الردود في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام وإزالة بعض ما علق بالأذهان من سوء فهم لتعاليمه وعقائده، والله من وراء القصد.

الردود على الشبهات المثارة حول الإسلام
زعموا أن هناك تناقضا بين النقل ” القرآن والسنة ” وبين ” العقل”
- الشبهة:
زعم العلمانيون وبعض المستشرقين أن هناك تناقضا بين النقل ” القرآن والسنة ” وبين ” العقل”.. وروجوا للقول بالاعتماد على العقل فقط – أي دون النقل “القرآن و السنة ” ويدعون الى استخدام العقل وحده أداة لإعادة النظر في كل ما تعتبره الأمة من المسلمات.
الرد على الشبهة:
- يقول المرحوم الدكتور محمد عمارة في الرد على الشبهة:
أولا: مقام العقل فى الإسلام هو مكان عال وفريد، ولا نظير له فى الشرائع السابقة على الشريعة الإسلامية الخاتمة.. فالعقل فى الإسلام هو مناط التكليف بكل فرائض وأحكام الإسلام.. أى شرط التدين بدين الإسلام.
ثانيا: القرآن الكريم هو معجزة عقلية، قد ارتضت العقل حكمًا فى فهمها وفى التصديق بها، وفى التمييز بين المحكم والمتشابه فى آياتها، وأيضًا فى تفسير هذه الآيات.. فليس للقرآن كهنوت يحتكر تفسيره، وإنما هو ثمرة لنظر عقول العلماء المفسرين.. وعلى حين كانت معجزات الرسالات السابقة معجزات مادية، تدهش العقول، فتشلها عن التفكير والتعقل، جاءت معجزة الإسلام – القرآن الكريم – معجزة عقلية، تستنفر العقل كى يتعقل ويتفكر ويتدبر، وتحتكم إليه باعتباره القاضي فى تفسير آياتها.. فكان النقل الإسلامي سبيلاً لتنمية العقلانية الإسلامية.. وكان هذا التطور فى طبيعة المعجزة متناسبًا ومتسقًا مع مرحلة النضج التى بلغتها الإنسانية، ومع ختم السماء سلسلة الرسالات والوحى إلى الأنبياء والرسل وأمم الرسالات..
ثالثا: أن العقل – فى الإسلام – هو سبيل الإيمان بوجود الله ووحدانيته وصفاته.. لأن الإيمان بالله سابق على التصديق بالرسول وبالكتاب الذى جاء به الرسول، لأنه شرط لهما، ومقدم عليهما، فالتصديق بالكتاب – النقل – متوقف على صدق الرسول الذى أتى به، والتصديق بالرسول متوقف على وجود الإله الذى أرسل هذا الرسول وأوحى إليه.. والعقل هو سبيل الإيمان بوجود الله – سبحانه وتعالى – وذلك عن طريق تأمل وتدبر بديع نظام وانتظام المصنوعات الشاهدة على وجود الصانع المبدع لنظام وانتظام هذه المصنوعات.. فالعقل – فى الإسلام – هو أداة الإيمان بجوهر الدين – الألوهية – وبعبارة الإمام محمد عبده: “.. فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلى، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحُجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته.. “. وذلك على حين كان العقل غريبًا ومستبعدًا من سبل الإيمان فى حقب الرسالات السابقة على الإسلام.. حقب المعجزات المدهشة للعقول .
رابعا: المقابلة بين ” العقل ” و ” النقل ” هى أثر من آثار الثنائيات المتناقضة التى تميزت بها المسيرة الفكرية للحضارة الغربية، تلك التى عرفت لاهُوتًا كنسيًا – نقلاً – لا عقلانيًا، فجاءت عقلانيتها، فى عصر النهضة والتنوير الوضعي العلماني، ثورة على النقل اللاعقلانى ونقضًا له..
أما فى الإسلام، والمسيرة الفكرية لحضارته وأمته – وخاصة فى عصر الازدهار والإبداع – فإن النقل لم يكن أبدًا مقابلاً للعقل، لأن المقابل للعقل هو الجنون، وليس النقل.. ولأن النقل الإسلامي – القرآن الكريم – هو مصدر العقلانية المؤمنة، والباعث عليها، والداعي لاستخدام العقل والتفكر والتدبر فى آيات الله المنظورة والمسطورة جميعًا. وآيات القرآن التى تحض على العقل والتعقل تبلغ تسعًا وأربعين آية.. والآيات التى تتحدث عن ” اللُّب ” – بمعنى عقل وجوهر الإنسان – هى ست عشرة آية. كما يتحدث القرآن عن ” النُّهى ” – بمعنى العقل – فى آيتين.. وعن الفكر والتفكر فى ثمانية عشر موضعًا.. وعن الفقه والتفقه – بمعنى العقل والتعقل – فى عشرين موضعًا.. وعن ” التدبر ” فى أربع آيات.. وعن ” الاعتبار ” فى سبع آيات.. وعن ” الحكمة ” فى تسع عشرة آية.. وعن ” القلب ” كأداة للفقه والعقل – فى مائة واثنين وثلاثين موضعًا.. ناهيك عن آيات العلم والتعلم والعلماء التى تبلغ فى القرآن أكثر من ثمانمائة آية.. فالنقل الإسلامى – أى الشرع الإلهى – هو الداعى للتعقل والتدبر والتفقه والتعلّم.. والعقل الإنسانى هو أداة فقه الشرع، وشرط ومناط التدين بهذا الشرع الإلهى.. ولذلك لا أثر للشرع بدون العقل، كما أنه لا غنى للعقل عن الشرع، وخاصة فيما لا يستقل العقل بإدراكه من أمور الغيب وأحكام الدين.
فالإسلام لا يعرف – على الإطلاق – هذه الثنائية المتناقضة بين العقل والنقل.. وصريح المعقول لا يمكن أن يتعارض مع صحيح المنقول.. ولقد عبر الإمام محمد عبده عن ما قد يتوهمه البعض تعارضًا عندما صاغ حقيقة هذه القضية فقال: ” لقد تقرر بين المسلمين أن الدين إن جاء بشىء قد يعلو على الفهم، فلا يمكن أن يأتى بما يستحيل عند العقل.. ففارق بين ما يعلو على إدراك العقل، من بعض أمور الدين، وبين ما يستحيل فى العقل الذى برئ ويبرأ منه الدين.
وإذا كانت البداهة والخبرة البشرية – وحتى الحكمة الفلسفية – تقول: إن من مبادئ الدين والشرائع ما لا يستقل العقل بإدراك كنهه وحقيقة جوهره، فكيف يجوز لعاقل أن يدعو إلى تحكيم العقل وحده فى كل أساسيات الدين؟! لقد قال الفيلسوف الفقيه أبو الوليد ابن رشد وهو الذي احترم عقلانيته المتألقة الأوروبيون والمسلمون جميعًا. قال عن رأى الفلاسفة القدماء فى مبادئ الشرائع التى لا يستقل العقل بإدراكها: ” إن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل فى مبادئ الشرائع مثل: هل الله تعالى موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟. وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد.. فيجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشرائع، لأن مبادئها أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية، وكيفية وجودها هو أمر معجز عن إدراك العقول الإنسانية، فلابد أن يعترف بها مع جهل أسبابها.
-المصدر:
من كتاب ” حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين” – مجموعة علماء – وزارة الأوقاف المصرية – 1423 هـ – 2002 م
